العنوان المتميز للعمل الروائي جميل وأنيق يبعث على حب القراءة وهو تزاوج فنيّ بين زارة كرمز للمرأة الريفية الراقية والتتمة الحب المقدس ،فالحب يتقدس حين يكون المحبوب يستحق التقدير والتقديس وهو بمعنى التنزيه عن الفواحش والمنكرات من الأخلاق فكلما ارتبطت المرأة بالشرف والنقاء أصبحت مقدسة كمثل رمزية السيدة العذراء،إلا أننا لا نملك من القلب التحكم فيما يلجه من حب ومشاعر .
هكذا بدأ الشاعر عمله الأدبي الثاني في نقطته الأولى وهي انطلاق ساحر يصف فيه الطبيعة الريفية الجميلة وهي من ضروب الجمال والرومنسية في الكتابة فالشاعر والكاتب يستمد قوته من عناصر تحيط به تدفعه للامتزاج والتشكل في قالب إبداعي وجداني نثري أو شعري،مدرجا بعض الصور الفنية الجميلة كقوله:وأنا أشاهد البرق يمدّ عروقه المكهربة في كبد السّماء،بحيث يسرح خيال القارئ ليشكّل لنا الصورة اللفظية صورة ذهنية ،وثراء الحقل الدلالي من أودية ،المراعي،الوحل،زهرة،النعاج ،مشكلة حقلا دلاليا لبيئة عربية ريفية ،ثم يتنفس الكاتب بوجع عند نقطة اسم زهرة هذا إنما يدل على مكانة الفتاة عند الراوي ،ومن هنا نكتشف أن الكاتب بن زخروفة استعمل السرد الخارجي بحيث أن الراوي والكاتب ليسا نفس الشخص وإن حمل على مبدأ المحاكاة فقط،ثم يسترد بعضا من العاطفة موظفا حكمة الخطأ بين الأحبة ومستدلا على أن الفرح حفاظ على أشياء نرتاح لها من قبل التنازل على المنغصات،ثم يخلص إلى القدر والموت وتشبيه الوجع الذي يحدث بعد الفراق كالموت أو هو أقرب إليه ؛ووطأة الفراق تظهر في مرارة الذكريات وضغطها على القلب من حيث القوة ،بداية جميلة ومختصرة تستدعي اكتشاف زارة وما الذي حدث في بقية نقاط العمل الأدبي.
أما النقطة الثانية يميل فيها الروائي إلى وصف الفتاة بعمق البراءة والبساطة بل وحتى التقاء فنقي السريرة يعامل الناس بنقائه لا بمثل معاملتهم إياه، ومن هناك يرسم لنا ملاح أبطال العمل الأدبي شخصية بريئة طفولية أنثوية و صاحبة فطرة في مقابل شخص ذكوري وصفه بالنرجسية والعصبية ،ومن هنا يبدأ الحوارية في ثوب ظالم فظ ومسالمة لطيفة ليسبغ الحكاية طابعا أخلاقيا وبعدا اجتماعيا غاية في الأهمية بل وفارق لا يتناسب مع العنوان الحب المقدس وهذا الذي يشكل النقطة القوية في النص ،ثم ينقلنا من مبدأ الفروق الأخلاقية إلى فرق السنّ بحيث يرى مهدي في زهرة عقلا ناضجا يفوق سنها وشكلها ،بقي هو في تفكير عميق حول ظواهر متعددة بدءا من حكمة زهرة وحكمة النمل والوقوف على الشرح المنطقي الوافي الذي قدمته زهرة بخصوص معتقدات وحدود البشر، وأن الإنسان هو الذي يكوّن شخصيته بصورة خاصة فنحن مثلا مسؤولون على سنّ عقولنا ومعالم تصرفاتنا وعمق معتقداتنا الدينية ولقد أتى الراوي هنا بصورة غاية في القوة فتأمل خلق الله من صور التصديق الجازم بعظمة الله ،فكل ما يحيط بنا ويصدر صوتا إلا وكان في فحواه التعبد لله،وما يلاحظ في هذا الجزء براعة الوصف فعلا وكأننا شاهدنا الطفلين في شقوتهما وبراءتهما وحتى تأمل مهدي الذي خضعنا له معه لنكتشف ما وراء ذلك ببساطة وعفوية ،وهذا الأسلوب الذي استعمله ليجعل القارئ في تهيئة لمحاكاة القصة والولوج فيها من باب الملكة الذهنية التي تسمح لنا بتصوّر المواقف.
![]() |
إضافة تسمية توضيحية |
ما في نقطته الثالثة فهي فصل ليصل الوجع الذي بدأ به والبوح بم حدث بين الراوي وزهرة أو زارة وهي رمزية اتخذها الراوي لتحديد بطلته المفكرة في حين اتخذت هي له اسم مادة كرمز جاف وكأن حتى اختيار الأسماء الخاصة فيها من القوة والشخصية فمادة هي الشكل الخارجي لكل شيء بعيدا عن خصائصة الداخلية،أمّا زارة فقوة اللفظة وكأنّ جذورها ممتدة إلى الفكر والفلسفة،وانتبه مهدي أن زهرة غضبت منه لكسله وتوكله عليها في حين هو يركن للراحة كل لحظة،وهذا ما يضاف لها من تميز لكونها جادّة في عملها وملتزمة،ومن الملاحظ براعة الكاتب في تنويع الوصف ليخفي الكثير من الوجع ليرسم حوافّ القصة بجمالية ،فالماء والزهر وأزهار اللوز والروابي كلّها طبيعة خلّابة تبعث في نفس القارئ راحة في استمرارية القراءة،حتى أنّ صورة المطر المنهمر والوحل المتطاير من أرجل الغنم والصبي والجو المكفهر صاغه الكاتب باسلوب راق وبديع .
ثم يواصل سرد القصة وهذه المرة بمرارة الغياب وغصة الانتظار،حتى تنفس ذلك برؤية شقيق زهرة الغاضبة فوجد في ظهوره بعض الطمأنينة وما إن استفسر عن سرّ غياب معلمته صعق بالخبر وأن لا عودة لزهرة تدله وتفيده ،فاصبح مهدي عرضة للكسل والغضب ونضوج في الضجر وتحليل للواقع والفكر وهذا الذي علمته زارة إياه ،فالحب الذي يجمعنا بأرواح لا يعني التغزّل وقصص الزواج بل هناك من الحب من يرفع المكانة في المجتمع والقوة في العلم واكتشاف أماكن لم نحلم بها قط وهذا الذي تركته زارة لمهدي وهي الحقيقة في وقتها،فادراك مهدي للعدو الذي ينتهك حقهم المادي والمعنوي وحتى الأرض لم يعد خرافة من خرافات الكبار ،والجيّد في الأمر اقراره بنضجه واتساع عقله فلم يعد حبيس التساؤلات والخمول،أما من الناحية العاطفية فلقد شجّ الغياب قلبه البريء معلنا دخول الحب من أضيق السبل وهو الإمتناع مع الرغبة فكيف الوصول إلى رفيقة الفرح وهي منوعة عنه بدافع بلوغها السّن الذي يمنعها عن مرافقة الشباب،ونلاحظ هنا قفزة الكاتب من الوصف إلى الوجدان من باب التنوع الأدبي الذي ينفض غبار العجز عن ذهن القارئ ولتوازن العمل بين الفكر والعاطفة.
ونتابع ما جاد به الكاتب من خلال عودته للوصف ليوم صيفي حار وعمّال المزرعة ،موظفا رموز البيئة الجزائرية من البرنوس والجواد والحايك والقفة ومظهر من مظاهر الريف الجزائري بحيث لا تختلط النساء بالرجال،ثم يقودنا نحو العاطفة بتناوب جميل في حين يبدأ القلب بالنبض وارسال الرسائل المشفرة التي تحتاج تحليلا وهي تجتاح الروح فتلميح المرأة والرسالة وافتعال الفوضى لإثارة الإنتباه كلّها اشارات لشيء مفقود يحاول الوصول إليه بأقل ضرر إن لم يكن بلا ضرر ،ثم انتهاؤه من تناول قهوته التي من صنع ذاك القلب الذي يبعث له رسائل مبهمة حتى انقضّ على الرسالة الفعلية. التي دستها المرأة بسرية بين الأرض والصخرة أن هناك شيء خاص بك فقم وتلقفه ،محيطا بكل هذا في قالب لغوي ممتع وقوي. ثم عملية فض المبهم واجلائه في مكان اعتاد الجلوس فيه ،وتضارب الحواس حين اطّلع سرّ الرسالة وهي تحمل عطر الغائبة وتفسيرها للفراق المحتّم بل وتليها رسالة حماسية تدفع به نحو التحرر من قيود العبودية التي كانت عرضة للانتهاز من قبل خونة الوطن أيام المعمر الفرنسي الذي كان يساوم الجزائريين في كل أمورهم دون استثناء ومن هنا يضفي الراوي صبغة الاجلال لزارة التي تنفست بعد مدة نخوة ووطنية ،في حين تلقف مهدي كلماتها وجدانيا واستعبارا، بل ودقق فيها كثيرا ووجد نفسه بصغر سنه أمام طلب غير معقول ولا يقبله والداه ولكن الحب يفعل فهي ترافقه بروحها ودعائها وكثيرا ما نجح أحباؤنا بفعل الدعم الصادق من قلوب محبة ،حجبت الدموع الرؤية الواضحة لمهدي لكنها خلقت فيه استنفارا وتمحيصا للوضع ،بحيث أصبح يعي ويدرك ما حوله بل ويبحث ليكتشف،وقد قاده الأمر حتى لتجريب الفعل الذي قام به سابقا بالنملة فهو الآن على حدود قرية أخرى وألوان من الصبية غيره لا يشبهونه هو ولا زارة
بل وجد نفسه أمام رسالة ثانية وتحد ثان من كلمات المجنون الذي أثاره نحو هذه السيادة والتحرر المرتقبان،بل ونقرأ من حيرته تمنيه لو فكت زارة عنه هذه الرسالة وبسطتها له ،في حين هي عدلت عن ذلك لتدفع به نحو التفكير والعمل ولا أن يألف الأمور البسطية فقط،ثم يقودنا في انفصال نحو حكايات الجدة وما لها من بعد تربوي فتلك الحكايات الشعبية التي تربينا عليها ما هي إلا نصائح في جوهرها أخذ المفيد وترك الرديء،فهذه الجدة روت له قصة ولكنها أدركت أنه لا يصغي لها بشغف كالسابق كيف لا وقد تربى على يدها فدفعته للبوح بالمكنون وربطت على قلبه ودفعته بكل حب مثلما دفعته زارة من قبل وصار قلبه قويا يغذيه الدعم والحب ،ولم تر الجدة بأسا في اختلاط مهدي بأهل القرية المجاورة لعلهم يحملون نخوة نحو التحرر وكسر المهانة والذل الذي حلّ طويلا في قريته،ليسقط في حبكة للقصة وهي مخالطة القرية وانقضاضهم عليه بتهمة الجوسسة لتبعث القصة من جديد،وتحويل مهدي من قبل رجلان من على انبساطه على الأرض راعيا لغنمه إلى قبضة شيخ الزاوية الذي اخضعه لاختبار ليّن ،وهي صفة العابدين العارفين ،وخاصة حين استنجد برسالة زهرة ،وكأنها تميمة قلبت السحر إلى حقيقة وقبول الشيخ بشهم جديد في صفوف الجنود المدافعين عن الوطن وعرّفه مهنته الجديد والتي برع في وصفها بحماسية كبيرة وهي قفزة من حياة الطفولة إلى حياة البطولة التي رأتها زارة في وجه مهدي بل وتمنتها ودفعت به نحو ذلك ،فهذا مهدي الراوي ينتقل من معناته مع الغنم وغياب زهرة نحو تحد جديد مع الطعام وجنود الوطن يتخللها حاجز العدو.
يواصل الكاتب سرد روايته على لسان بطل القصة ،مهدي الذي صار سعيدا بتحقيق رغبة زارة ،إلّا أن يومه ذاك لم يكن موفقا حين عاد من مهمته،وباغتته أصوات طلقات الرصاص ونداء الاستغاثة من قائد شجاع،بل هناك حمّله أمانة جديدة وفضّل نجاة مهدي على أن ينجوا معا ،ولكن للطيّب حظ يراه سلبيا لكنه خيط يقوده نحو مغامرة مستمرة لتحقيق المرغوب،فمهدي الذي أطلق عنان الاستغاثة لنجدة البطل الجريح وجد نفسه في كمين محكم وأمام لحظة تتقلص فيها الفرص وهو المجازفة بالرسالتين حفاظا على من يحب وهي التضحية التي ظهرت لمهدي خيانة ،فأقل ضرر نحمله لمن نحب أن نجنبهم العذاب ونمضي في غير الصورة التي شاؤوا أن يرونا بها،فانطلاق رحلة العذاب هي بحد ذاتها انتصار أن الرؤوس الكريمة لا تلعق أطراف العدو،مصورا لنا المواقف بقسوة وما كان يفعله العدو الفرنسي في أهلنا بلا رحمة ،ودناءة الجنود الفرنسيين الذين تخلوا عن كونهم بشرا في حربهم ضدّ عزّل وأبرياء على أرضهم. وهو يواصل سرد ما تعرض له جسده الضعيف والذي ضعف بفعل الجوع والسفر المتواصل نحو جهة مجهولة،ثم يأخذنا إلى فسحة روحانية بين الواقع واللاوعي وهي بياض من سراب وخيال وما تقلده من كرامة وقلادة شرف ،وهي رحلة انطلاقه نحو اللاوعي من كثرة انهيار جسده ودخوله في غيبوبة طويلة ،ارغمت الجنود على اسعافه ليخرجوا من لسانه بعض المعلومات عن جبهة التحرير والشرفاء المدافعين عن الوطن،ولم تكن استفاقته بالجميلة في نظره في حين ترصّد العدو لبوحه بشيء ثمين ،ثم وصفه للمعتقل وقسوة الجنود على الأسرى ودفع الطبيب له بالبوح في حالة مسالمة خير له من أن تقتطع الحقيقة من جسده،ومن ثمة يكشف الراوي التباين في اواسط الجند الفرنسي فبينهم من يقوم بعمله وفقط، ومنهم من يتلذذ باحتقار الأسرى وتنفيس الغضب والضجر.
ومن هناك كانت الرحلة الشاقة التي قام بها مهدي عبر الوطن ليصّل إلى المستشفى ويخرج منه كأنه لم يكن معنيا بالبوح وهتك سرّ المناضلين ،ليفرج البؤس من الصور المترامية أمام عينه إلى فسحة النقيب وطلاقته في لقائه بالصبي في مكان أفضل من معتقل يعجّ برائحة الدّم وصراخ المتألمين،ومنه النجاة الثالثة من العقاب والسير في فسحة رغم تأزم الأوضاع في الوطن،فواصل سرد الرغد في بيت النقيب الذي لم يدم بقاؤه كثيرا على ملك لم يكن له حق فيه وعشية نيل الجزائر حريتها ،خيّرهم النقيب بين البقاء في وطنهم أو السفر رفقته،وها هو مهدي يقف ساعته الأولى في الحرية على وقع صدمتين: الأولى قرار العمال بمرافقة سيدهم وتتمة العبودية على وجه يرونه كريما ،والثانية في اكتشاف سرّ نجاته بفضل امرأة كانت من قبل تحقق له الرخاء والعيش السعيد بفضل تضحيتها ومحبتها فلو لم يكن حبا لم تكن امرأة رمت بشرف اسلامها إلى كافر ينتهك وطنها جزية عن ذمة محبوب ،ليعود الجو المكفهر الذي ساده ذات صباح من غيابها ،وكثيرا ما وظّف الكاتب التلاعب السردي بالمكان والزمان فحين خرج مهدي من المستشفى شبه مجنون تذكر بلدته وزهرة فور مروره بحديقة النقيب.
انتهت القصة بعودة البطل لقريته التي فقدت زهرة والجدة وحكاياتها ،واصبح مهدي سيدا كما تمنته زارة التي فضلت عتق عائلة من الإعدام بشرفها مضحية بل واعتنت بمن أحبت عناية تامة ،ومن هنا نكتشف أن الحب لا يعني أن نعيش رفقة من نحب بل هو أيضا تضحية في سبيل من نحب ،هكذا أجاد الكاتب الروائي عمله المميز بكل صدق،متخذا من بدايته إلى نهايته قوة تدعّم مفاصل النص تعلو به بين تاريخ وتباين زمني من ضيق الحرب إلى فسحة الحرية ومن ضيق مكان الرعي دون زهرة إلى فسحة الكرامة في القرية ،وكذلك من فسحة المكان من حمل المؤونة إلى عناية تامة من العدو، ناهيك عن براعة التعبير وترابطه إلا ما تخلله من بعض الأخطاء التي وقعت سهوا من الطبع واللصق وهي لا تكاد تؤثر أبدا في فنية وجودة الرواية ،وكذلك إعلاء لزمن الجهاد في سبيل الله وحماية الوطن،وفضل المرأة التي ساندت بكل ما تملك شعبها ووطنها تخليصا له من براثن الفرنسي المنتهك قدسيتها،وفي الأخير يمكنني القول بأن العمل الذي قام به محمد بن زخروفة عمل فني رائع زاوج بين التراث والاستقلال وبين الحب والحرب والتضحية ،هنيئا له العمل وتمنياتي له بعمل متميز كهذا مع التزام اللغة العربية الفصيحة فلقد أثبت براعته ،وهذا لا يعني اقصاء التراث أبدا بل كان له أثره البارز في هذه الرواية.
بقلم : هاجر بن جمعة.
الجزائر :5-مارس-2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق