رقصة المطر...
هدوء يغشى المكان، تكبيرات المؤذّن ترتفع خمس مرّاتٍ في اليوم لتكسر الصمت الكئيب على المدينة، أوراق تنتظر التوقيع، صراخ طفل حديث الميلاد، موت شيخٍ في آخر دقائقه، كلّها تجتمع هنا وفي كل مكان، كأنّ الحياة تحمل كل أنواع المتناقضات.
تعانق قطرة مطر وجهها الملائكي، تنتحر أخرى منحدرة من على وجنتها، وصلت إلي، عانقتني وقالت:
ـ أبي المطر...إنّه المطر.
جففت شعرها، أخذت محفظتها، أعطيتها كأس الحليب الساخن، توخّت بخاره وهي ترشفه:
ـ أبي...
ـ نعم بنيّتي؟؟
ـ كيف يموت الناس؟
ـ نحن أكياس مملوءة بماء الحياة وتكفي ثقب صغيرة كالثانية أن تفرغنا منها، لماذا السؤال؟
نظرت إلي وقالت دون أن تعير سؤالي أيّ اهتمام:
ـ هل الموت مؤلم؟
ـ لا أظنّه كذلك بنيّتي. لكن لماذا كلّ هذه الأسئلة؟
ـ مجرّد فضول فقط أبي.
أكملتْ كأس حليبها، جلستْ بجانبي ورحتُ أحكي لها بطولاتي في شخص آخر، وضعتْ خدها البريئة على فخذي ونامت، نوم الملائكة في ريش أجنحتها.
ابنتي " أمينة" التي تبلغ من العمر 6 سنوات، ماتت أمّها العام الماضي بسبب المطر الغزير الذي تساقط على مدينتنا " بني حواء"، ومنذ ذلك اليوم وهي تخاف الموت والمطر، رحلت أمّها وتركت شبيهتها معي هنا، صورةً تعيش معي.
استيقظتْ فزعة:
ـ أبي، رأيت أمي في الحلم؟
ـ ماذا قالت لك؟
ـ قالت لي أنّ الموت ليس مؤلما، وأنّ المطر ليس شريرا.
ـ قلت لك ذلك...لكنّكِ لم تصدّقني.
ضحكنا معا.
أمّها تساعدني في تربيتها حتى بعد موتها، قفزتْ من على السرير، أخذتْ كرّاساتها واتّخذت من ركن الغرفة مكانا للدراسة.
جلستُ بعيدا عن كل هذا، الكثير ما يشغل بالي، أعيش في عالم أفكاري، تائهٌ داخلي، أفكّر... في كثير من الأمور أفكّر...وبعمق، كأنّ الأفكار تخنقني، أفكّر في أمّها التي أحبَبْتُ وتزوّجت، المجتمع الذي يقول لي أن أعيد الزواج، لكنّ روحي امتلأت بأمها، فكيف أعيد الزواج لأجل صورة زوجتي السابقة التي تعيش معي؟
ـ ما هي الملائكة أبي؟
قالت من ركن الغرفة. ظننت لوهلة أنّها تسألني عن نفسها.
ـ الملائكة؟؟
قلت، مستغربا
ـ نعم، الملائكة؟؟
أجابت ملتفتةً إلي، كأنّها تنتظر الإجابة.
ـ أمممم، لنرى... الملائكة كائنات نورانية، خلقت من نور، وتقوم بحسراتنا، وتعمل في ملكوت الله، لكل واحد منها عمله الخاص به.
ـ ولماذا تحرسنا؟ ألسنا قادرين على حراسة أنفسنا؟
ـ ولماذا تحرسنا؟ ألسنا قادرين على حراسة أنفسنا؟
ابتسمت في وجهها ثم قلت:
ـ مهما حرسنا أنفسنا بنيّتي يبقى هناك جانبٌ لا نحرسه، وهي تتكفّل به.
ـ آه فهمت.
ـ جيّد... لأنّ العشاء جاهز.
ـ أنا قادمة.
أغلقت دفاترها بعد أن خربشت بضع خربشات، غسلت يدها، وقابلتني على مائدة العشاء.
ـ بسم الله أبي.
ـ بسم الله بنيّتي.
تتكوّر اللقمة وأختها داخل فمنا، يكتفي اللسان بدفع كل ذلك إلى الهاوية، ليتحوّل كل شيء إلى حريرات يقوم الجسم باستهلاكها. أكملنا العشاء، نامتْ من جديد واكتفيتُ بوضع الغطاء عليها. وضعتُ رأسي أيضا على الوسادة دون أن أضع عقلي، جُلتُ في متاهات كبيرة، أسئلة ابنتي التي تقلقني، هل كبرتْ قبل أن تكبر؟ أم أنا الذي صرتُ أصغر من أن أهتمَّ بها أكثر؟
كبرتْ ابنتي، ثم كبرتْ، ثم كبرتْ مرّة أخرى، ودّعتني بأن وضعت يدها في يد رجل آخر وراحت، أسبلت دموعها وهي تقول:
ـ سامحني.
ـ أنت لم تفعلي شيئا يستحق أن نسامح عليه، كما أنّ من يسمعك سيقول أنّك ذاهبة للموت.
ضحكت...
كم كانت جميلة حين ضحكت والدموع في عينها، مسحتها بيدي هاتين، ثم قلت:
ـ عيشي حياتك، لا تموتي قبل أن تموتي.
ـ سأفعل... سأشتاقك أبي.
ـ هيه...كلما اشتقتِ لي سآتي إليك.
ـ حسنا...وسأكون في انتظارك.
كان فستانها الأبيض يمسح المكان مودّعا، كأنّه يترك رائحته ملتصقة بي وبما يحيط بي من أشياء، " أمينة" ستكون أمينة رجل آخر، وسترقص له تحت المطر. أما أنا فسأكمل ما تبقى لي من أيام وحدي هنا، سأحاول أن أتعلم جيّدا، أن أتعلم بعد الموت كيف أنام بشكل جيّد، دون أن يقضّ مضجعي أمور دنيوية.
دخلنا المشفى معا ذات يوم، دخلت قبلها بأسبوع، هي بوادر الشيخوخة عندي، بينما عند ابنتي بوادر أوّل مولود:
ـ أبي...إنه ولد، أسميناه " محمد عبد الرحمان"
ـ أبي...إنه ولد، أسميناه " محمد عبد الرحمان"
قالت أمينة بعدها بأيام عبر الهاتف.
ـ جميييل جدا...بنيّتي، ما شاء الله، حفظه الله لكما، وأفرحكما به.
ـ جميييل جدا...بنيّتي، ما شاء الله، حفظه الله لكما، وأفرحكما به.
ـ آآآآمين، أ لن تأتي أبي؟
ـ بودّي ذلك بنيّتي لكن جسمي يخونني الآن.
ـ إذن سآتي أنا إليك.
ـ حفظك الله يا ابنتي.
بعد طول عمرـ لأن المنتظرين كثيرا ما يمرّ عليهم الزمن ثقيلا جدّا، أظنها كانت يوما أو يومين في زمن يحسبون به هم ـ، التقيتها " ومحمد عبد الرحمان" في يدها، قرأت الآذان في أذنه والإقامة، كنت متعبا جدّا ، أوشك أن أنطفأ من وهج الحياة .
تشهّدوا عليّ جميعا، لأغلق عيوني وأنام، أذكر أني كنت أرى دموع أمينة، والمطر في الخارج متشابهين جدا، آخر ما قلته كان:
ـ أحسني تربيتهما، نلتقي بعد قليل.
ابتسمتُ ونمتُ كما لم أنم من قبل.
هي الحياة ميلاد وموت، تكتفي بصنع المطر لنا ليرقص على أعمارنا، وحدهم الذين يجيدون استخدام مائه لهم حقّ الحياة، ألم يقل تعالى:" وجعلنا من الماء كل شيء حيّ"؟. لهذا لا تنشغل بالرقصة أكثر مما يجب، واجمع ماء المطر بدل ذلك. لأنه الوحيد الذي سيكفل لك الحياة بعد الحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق